مقامات الحريري – الدرس 1

بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنّا نحمدك على ما علّمت من البيان، وألهمت من التّبيان. كما نحمدك على ما أسبغت من العطاء، وأسبلت من الغطاء. ونعوذ بك من شرّة اللّسن، وفضول الهذر. كما نعوذ بك من معرّة اللّكن، وفضوح الحصر. ونستكفي بك الافتتان بإطراء المادح، وإغضاء المسامح. كما نستكفي بك الانتصاب لإزراء القادح، وهتك الفاضح. ونستغفرك من سوق الشّهوات، إلى سوق الشّبهات. كما نستغفرك من نقل الخطوات، إلى خطط الخطيئات. ونستوهب منك توفيقا قائدا إلى الرّشد، وقلبا متقلّبا مع الحقّ، ولسانا متحلّيا بالصّدق. ونطقا مؤيّدا بالحجّة، وإصابة ذائدة عن الزّيغ. وعزيمة قاهرة هوى النّفس، وبصيرة ندرك بها عرفان القدر. وأن تسعدنا بالهداية، إلى الدّراية وتعضدنا بالإعانة، على الإبانة. وتعصمنا من الغواية، في الرّواية، وتصرفنا عن السّفاهة، في الفكاهة، حتّى نأمن حصائد الألسنة، ونكفى غوائل الزّخرفة، فلا نرد مورد مأثمة، ولا نقف موقف مندمة. ولا نرهق بتبعة، ولا معتبة ولا نلجأ إلى معذرة عن بادرة. اللهمّ فحقّق لنا هذه المنية، وأنلنا هذه البغية، ولا تضحنا عن ظلّك السّابغ، ولا تجعلنا مضغة للماضغ. فقد مددنا إليك يد المسألة، وبخعنا بالاستكانة لك والمسكنة. واستنزلنا كرمك الجمّ، وفضلك الّذي عمّ، بضراعة الطّلب، وبضاعة الأمل، بالتّوسّل بمحمّد سيّد البشر، والشّفيع المشفّع في المحشر، الّذي ختمت به النّبيّين، وأعليت درجته في علّيّين، ووصفته في كتابك المبين، فقلت وأنت أصدق القائلين، وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين. الّلهم فصلّ عليه وعلى آله الهادين، وأصحابه الّذين شادوا الدّين، واجعلنا لهديه وهديهم متّبعين، وآنفعنا بمحبّته ومحبّتهم أجمعين. إنّك على كلّ شيء قدير، وبالإجابة جدير. وبعد، فإنّه قد جرى ببعض أندية الأدب الّذي ركدت في هذا العصر ريحه، وخبت مصابيحه، ذكر المقامات الّتي ابتدعها بديع الزّمان، وعلّامة همذان، رحمه الله تعالى، وعزا إلى أبي الفتح الإسكندريّ نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها، وكلاهما مجهول لا يعرف، ونكرة لا تتعرّف فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم. إلى أن أنشىء مقامات أتلو فيها تلو البديع، وإن لم يدرك الظّالع شأو الضّليع، فذاكرته بما قيل فيمن ألّف بين كلمتين، ونظم بيتا أو بيتين. واستقلت من هذا المقام الّذي فيه يحار الفهم، ويفرط الوهم. ويسبر غور العقل، وتتبيّن قيمة المرء في الفضل. ويضطرّ صاحبه إلى أن يكون كحاطب ليل، أو جالب رجل وخيل. وقلّما سلم مكثار، أو أقيل له عثار. فلمّا لم يسعف بالإقالة، ولا أعفى من المقالة، لبّيت دعوته تلبية المطيع، وبذلت في مطاوعته جهد المستطيع، وأنشأت على ما أعانيه من قريحة جامدة، وفطنة خامدة، ورويّة ناضبة، وهموم ناصبة، خمسين مقامة تحتوي على جدّ القول وهزله، ورقيق اللّفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره إلى ما وشّحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات. ورصّعته فيها من الأمثال العربيّة، واللّطائف الأدبيّة، والأحاجيّج النّحويّة، والفتاوى اللّغويّة. والرّسائل المبتكرة، والخطب المحبّرة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية. ممّا أمليت جميعه على لسان أبي زيد السّروجيّ، وأسندت روايته إلى الحارث بن همّام البصريّ. وما قصدت بالإحماض فيه، إلّا تنشيط قارئيه، وتكثير سواد طالبيه. ولم أودعه من الأشعار الأجنبيّة إلّا بيتين فذّين، أسّست عليهما بنية المقامة الحلوانيّة. وآخرين توأمين، ضمّنتهما خواتم المقامة الكرجيّة. وما عدا ذلك فخاطري أبو عذره، ومقتضب حلوه ومرّه. هذا مع اعترافي بأنّ البديع رحمه الله سبّاق غايات، وصاحب آيات. وأنّ المتصدّي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلّا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلّا بدلالته. ولله درّ القائل:

فلو قبل مبكاها بكيت صبابة
بسعدى شفيت النّفس قبل التّندّم
ولكن بكت قبلي، فهيّج لي البكا
بكاها، فقلت الفضل للمتقدّم

وأرجو أن لا أكون في هذا الهذر الّذي أوردته، والمورد الّذي تورّدته، كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفّه. فالحق بالأخسرين أعمالا الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا. على أنّي وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونضح عنّي المحبّ المحابي، لا أكاد أخلص من غمر جاهل، أو ذي غمر متجاهل، يضع منّي لهذا الوضع، ويندّد بأنّه من مناهي الشّرع. ومن نقد الأشياء بعين المعقول، وأنعم النّظر في مباني الأصول نظم هذه المقامات، في سلك الإفادات. وسلكها مسلك الموضوعات، عن العجماوات والجمادات. ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات، أو أثّم رواتها في وقت من الأوقات. ثمّ إذا كانت الأعمال بالنيّات، وبها انعقاد العقود الدّينيّات، فأيّ حرج على من أنشأ ملحا للتّنبيه، لا للتّمويه. ونحا بها منحى التّهذيب، لا الأكاذيب. وهل هو في ذلك إلّا بمنزلة من انتدب لتعليم، أو هدى إلى صراط مستقيم. على أنّني راض بأن أحمل الهوى، وأخلص منه لا عليّ ولا ليا. وبالله أعتضد، فيما أعتمد، وأعتصم، ممّا يصم. وأسترشد، إلى ما يرشد. فما المفزع إلّا إليه، ولا الاستعانة إلّا به، ولا التّوفيق إلّا منه. ولا الموئل، إلّا هو. عليه توكلت وإليه أنيب، وبه نستعين، وهو نعم المعين.

Comments are closed.